بين النور والديجور: الثوب الأبيض والأسود في ميزان الرؤى جدلية الصفاء والسلطة.. قراءة تراثية ونفسية لكسوة الروح 1. مقدمة: الثوب، الستر، وهوية الرائي في عالم الرؤى والأحلام، لا تُعد الثياب مجرد قماش يستر الجسد، بل هي "جلد ثانٍ" يعكس حال الرائي، دينه، وجاهه، وما يضمره في سريرته. الألوان في المنام لغة صامتة لكنها صارخة الدلالة؛ فالأبيض هو لون الفطرة والضياء والكفن، والأسود هو لون الليل والسؤدد والحداد. تتجلى في رؤية الثوب الأبيض والأسود ثنائية الوجود البشري: الخير والشر، الفرح والحزن، الحياة والموت. إن قراءة هذه الرموز تتطلب حذراً شديداً وفهماً عميقاً لقواعد التأويل التي وضعها أساطين هذا العلم. فالثوب الأبيض قد يكون عرساً وقد يكون كفناً، والثوب الأسود قد يكون رفعة وسلطاناً وقد يكون همّاً وغمّاً. في هذا المقال الموسوعي، سنفكك خيوط هذه الرؤى بدقة متناهية، مستندين إلى ابن سيرين (شيخ المعبرين)، و النابلسي (صاحب التعطير)، و ابن شاهين (الظاهري)، لنرسم خريطة واضحة لمعاني هذه الألوان حين تكسو أجسادنا في عالم المنام، مدمجين ذلك بفهمنا الحديث للنفس البشرية. 2. التفسير العام للرمز (منظور العلماء الثلاثة) يتفق العلماء الثلاثة على أن الأصل في الثياب هو "الستر والدين"، ولكن اللون يغير المجرى التأويلي بالكامل. عند ابن سيرين: يضع ابن سيرين قاعدة جوهرية للتفريق بين اللونين. البياض عنده هو الأصلح والأفضل في كل الحالات، فهو يرمز لجمال الدين والدنيا، وصلاح السريرة. أما السواد ، فيربطه ابن سيرين بـ "العادة". يقول: "من كان معتاداً لبس السواد في اليقظة، فرؤيته في المنام سؤدد وعز ومال. ومن لم يكن معتاداً لبسه، فهو مكروه وقد يدل على الحزن أو المرض". عند الشيخ النابلسي: يرى النابلسي أن الثوب الأبيض هو "ضياء وبرهان". هو دليل على الكرم والجود وصفاء القلب من الأحقاد. أما الثوب الأسود، فيتوسع النابلسي في تأويله ليشير إلى أنه قد يكون دليلاً على السيادة والحكم (لأن السواد كان شعار بني العباس)، ولكنه يحذر منه إذا كان مغبراً أو قديماً، حيث يؤول بالمذلة أو البلاء. عند ابن شاهين: يميل ابن شاهين إلى الدقة في التفاصيل. يرى أن الثوب الأبيض الجديد هو براءة من الذنوب وتوبة نصوح. أما الثوب الأسود، فيفصل فيه: إن كان جدياً ولامعاً فهو جاه وهيبة، وإن كان خشناً أو متسخاً فهو همّ يركب الرائي. ويضيف ابن شاهين بُعداً آخر وهو "خلط الألوان"، فمن لبس ثوباً فيه بياض وسواد، اختلط أمره بين الحق والباطل، أو بين الدين والدنيا. 3. التفسير الإيجابي: هيبة السلطان ونقاء الإيمان حين تأتي الرؤية مبشرة، فإن الأبيض والأسود يحملان دلالات العز والرفعة: صلاح الدين والدنيا (الأبيض - إجماع العلماء): يتفق العلماء الثلاثة أن الثوب الأبيض النظيف يدل على حسن إسلام الرائي، وحفاظه على سنته، وصلاح أحواله المعيشية. هو رمز للزوجة الصالحة للرجل، وللزوج التقي للمرأة. السؤدد والجاه (الأسود - لمن اعتاده): يؤكد ابن سيرين والنابلسي أن من اعتاد لبس البدلات السوداء أو العباءات السوداء في الواقع ورأى ذلك في منامه، نال منصباً رفيعاً، وكلمة مسموعة، وهيبة بين الناس. الأسود هنا هو لون "الوقار" والسلطة. الحج والعمرة (الأبيض): يرتبط الثوب الأبيض بملابس الإحرام. لذا، رؤية لبس الأبيض قد تكون بشارة بزيارة بيت الله الحرام، خاصة إذا ترافقت مع التلبية أو رؤية الكعبة (ابن شاهين). الستر والشفاء: لبس الثوب الأبيض الواسع الساتر يدل على الستر من الفضائح والشفاء من الأمراض، لأن البياض نقيض "سواد" المرض والألم. 4. التفسير السلبي أو المحذّر: ظلال الحزن والكفن على النقيض، قد تكون هذه الألوان نذير شؤم أو تحذير إلهي: المصيبة والغم (الأسود - لمن لم يعتده): يحذر ابن سيرين بشدة: إذا لم تكن معتاداً على لبس الأسود ورأيت نفسك متشحاً به، فقد تستقبل خبراً محزناً، أو تقع في ضيق مالي، أو تواجه متاعب نفسية شديدة. الكفن والموت (الأبيض): إذا رأى الشخص أنه يلبس ثوباً أبيض ويغطي وجهه، أو رأى ثياباً بيضاء تُفصّل له ولم تكن تشبه ثياب الحي (بل تشبه الأكفان)، فهذا نذير بدنو الأجل أو موت أحد الأقارب (النابلسي). التعطل والبطالة (الأسود المتسخ): الثوب الأسود الممزق أو المتسخ يرمز إلى سوء الحال، والفقر بعد الغنى، وربما دل على سمعة سيئة تلاحق الرائي (ابن شاهين). الرياء والبدعة: لبس الأبيض بقصد التباهي أو إذا كان الثوب قصيراً جداً أو شفافاً، قد يدل على الرياء في الدين أو اتباع بدعة، حيث الظاهر نقي والباطن مكشوف (ابن سيرين). 5. تفسير الرمز حسب حالة الرائي الحالة الاجتماعية هي البوصلة التي توجه المعنى بدقة: أ. العزباء الأبيض: هو الفستان، هو الحلم. لبس الأبيض للعزباء بشارة قوية باقتراب الزواج أو الخطبة من رجل صالح. كما يدل على عفتها وسمعتها الطيبة بين الناس. الأسود: إذا لبسته في حفلة وكان جميلًا، فهو نجاح دراسي أو مهني مبهر وتميز عن أقرانها. أما إن لبسته وهي حزينة، فقد يدل على فشل علاقة عاطفية أو شعور بالوحدة والاغتراب داخل الأسرة. ب. المتزوجة الأبيض: استقرار حياتها الزوجية، وصلاح حال زوجها. إذا رأت زوجها يلبس الأبيض، فهذا ينم عن محبته لها وإخلاصه، وربما دل على حمل قريب. الأسود: إن كانت معتادة عليه (كالعباءة)، فهو ستر وعفاف. وإن لم تكن، فقد يدل على مشاكل وخلافات زوجية قد تصل للخصام، أو همّ يخص الأبناء. ج. الحامل الأبيض: سلامة لها ولمولودها، ودلالة على ولادة ميسرة وطبيعية. الملائكة تُصور بملابس بيضاء، لذا فهو حفظ إلهي. الأسود: قد يعكس مخاوفها من الولادة (حديث نفس). ولكن عند بعض المعبرين، الثوب الأسود الفخم للحامل قد يبشر بمولود ذكر سيكون له شأن عظيم وسلطة في المستقبل. د. المطلقة الأبيض: صفحة جديدة، تطهير من ذكريات الماضي المؤلمة، وربما زواج جديد أو عودة للطليق بصلاح حال. الأسود: إذا كان أنيقاً، فهو استعادة لكرامتها ومكانتها الاجتماعية والاعتماد على النفس. وإذا كان رثاً، فهو الحزن والاكتئاب الذي تعيشه بعد الطلاق. هـ. الرجل الأبيض: للرجل هو الدين والعمل الصالح. للتاجر صدق في المعاملة وربح حلال. وللمريض (إن لم يكن كفناً) شفاء. الأسود: للرجل هو السلطة والنفوذ. من لبس الأسود وصعد منبراً أو ترأس مجلساً، نال ولاية أو ترقية كبرى. ولكن إن لم يكن أهلاً لذلك، أصابه همّ من جهة السلطان. 6. التحليل النفسي (سيكولوجية الألوان) يذهب علم النفس الحديث (يونغ وفرويد) إلى أبعاد أعمق: الأبيض (الهوس بالكمال): قد يرمز الأبيض إلى رغبة الرائي في "التطهر" من شعور دفين بالذنب. إنه البحث عن البداية الجديدة (Tabula Rasa). الشخص الذي يحلم بالأبيض قد يعاني من "المثالية المفرطة" والرغبة في الظهور بمظهر الخالي من العيوب. الأسود (الظل والقوة): الأسود يمثل "الظل" (The Shadow) عند يونغ؛ الجانب المجهول أو المكبوت في النفس. قد يعبر عن الاكتئاب والانغلاق، ولكنه أيضاً لون "الحماية". الشخص يرتدي الأسود في الحلم ليضع حاجزاً نفسياً بينه وبين الآخرين، أو ليفرض سلطته ويخفي ضعفاً داخلياً. التناقض: الحلم باللونين معاً يعكس صراعاً داخلياً بين الرغبة في الانضباط (الأبيض) وبين الميل للعزلة أو القوة والسيطرة (الأسود). 7. حالات خاصة للرمز وتأويلاتها رؤية الميت بالثوب الأبيض أو الأسود: الأبيض: الميت في ثياب بيضاء ناصعة هو في نعيم وجنة، وعمله قُبل عند ربه (ابن سيرين). الأسود: الميت في ثياب سوداء قد يدل على حاجته الماسة للدعاء، أو ديون معلقة في رقبته، أو أن أهله من بعده في حزن وضيق (النابلسي). خلع الثوب الأبيض أو الأسود: خلع الأسود لمن كان في همّ: فرج وزوال للغم. خلع الأسود لمن كان صاحب سلطة: عزل من المنصب (ابن شاهين). خلع الأبيض: ابتعاد عن الدين أو ارتكاب معصية تلوث السمعة. غسل الثياب (البيضاء والسوداء): غسل الثياب في المنام هو توبة وإصلاح ذات البين. غسل الثوب الأسود قد يعني التخلي عن كبرياء زائف أو حل مشكلة مع رئيس في العمل. شراء القماش: شراء قماش أبيض: مال حلال وعقد زواج. شراء قماش أسود: خوف وهلع إن لم يكن للبس، أو سعي لمنصب إن كان للبس. 8. التأويلات الحديثة وإسقاطاتها في واقعنا المعاصر، كيف نقرأ هذه الرموز؟ المهنة والوظيفة: الثوب الأبيض قد يرمز لمهنة الطب أو التمريض (الشفاء والمساعدة). الثوب الأسود قد يرمز للمحاماة (القانون) أو المناصب الإدارية العليا والبروتوكولات الرسمية. الحالة النفسية: رؤية العالم بالأبيض والأسود فقط (غياب الألوان الأخرى) قد تشير إلى الاكتئاب الحاد أو النظر للأمور بتطرف (إما خير مطلق أو شر مطلق) وعدم المرونة في التفكير. 9. خاتمة إن الثوب الأبيض والأسود في المنام هما كفّتا ميزان الحياة. الأبيض يدعوك للنقاء، والصفاء، والعودة إلى الفطرة. والأسود يذكرك بالهيبة، والوقار، وأحياناً بضرورة الحذر من الأحزان. يعلمنا ابن سيرين والنابلسي وابن شاهين أن الرمز لا يُقرأ بمعزل عن حال صاحبه. فما هو عز لزيد قد يكون حزناً لعمرو. خلاصة القول: إذا زارك البياض فاستبشر بنور الإيمان، وإذا زارك السواد وأنت من أهله فتهيأ للمجد، وإذا لم تكن، فاستعذ بالله واسأله اللطف في القضاء.